[2] الطـرق الصوفيــة (11)
إذا كانت ظاهرة التشيخ قديمة قدم الإسلام نفسه في السنغال، فإنَّ الطرق الصوفية تعد جديدة نسبياًّ، ويبدو أنها ظهرت في أطراف الصحراء الكبرى أثناء مرور الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني بموريتانيا، وهو في طريقه إلى نيجيريا، في القرن الخامس عشر الميلادي، حيث أخذ عنه الطريقة القادرية بعض أعيان قبيلة "كنت" ومن ثم بدأت تنتشر في غربي أفريقيا.
والطرق الصوفية عبارة عن مجموعة قواعد للرياضة الروحية، تحتوي على أذكار وأوراد وسلوك خاص، وضعها كبار زعمائها، الذين تألّق نجمهم وذاع صيتهم لأتباعهم المتعلقين بأهدابهم، وممن يستهويهم التصوف دون أن يكون لديهم استعداد كامل للغوص في خضمِّه.
وقد ازدادت أهمية الطرق الصوفية في السنغال من بداية القرن التاسع عشر لتبلغ أوجها مع بداية هذا القرن، وتضافرت عوامل لصعودها ولشهرة كبار قادتها.
كانت العائلات الإسلامية الكبيرة محل احترام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، حتى في ظل النظام البائد "تيدو " وكانت بيوتهم مأوى المستضعفين حين تتصاعد قسوة نظام الأرواحيين. وعلى إثر تلاشي ذلك العهد وجد الناس البديل في زعماء الطرق الصوفية حيث التف حولهم صنفان من المواطنين:
1- أولئك الشامتون بسقوط نظام الطغيان، ويشكل هؤلاء الأغلبية الساحقة، يقول "مارتي ": إن حقيقة مزايا الإسلام ونزاهة الشيوخ حجبت السمعة التي كان يتمتع بها زعماء سياسيون في السنغال القديم. خصوصاً وأن هؤلاء أصبحوا -بعد انهزامهم وخضوعهم للاستعمار- موضع إهانة واحتقار من الشعب، بينما لم يدخل الشيوخ في مساومات مهينة مع المستعمر، ولذلك ظلوا رمزًا للمقاومة الوطنية يعني أنه كلما ضعفت الأرواحية، ازداد نفوذ الإسلام، وبالتالي قوة الشيوخ.
2- طائفة "تيدو " نفسها وجدت في الالتفاف حول الشيوخ متنفساً لمرارة انهزامها واندحارها أمام الاستعمار وردّ فعل الاحتلال الأجنبي.
يضاف إلى ذلك تفكك المجتمع التقليدي بفعل ظهور التعامل في ميدان التجارة بالقيم - وسهولة المواصلات وتنقلات الفلاحين الدائبة من قرية إلى قرية بغرض زراعة القول السوداني؛ إذ غيّر ذلك كلّه طبيعة العلاقات بين الأفراد. وقد استفاد الشيوخ والطرق والصوفية في مناطق خاصة في السنغال من هذا الوضع الجديد لكونهم القوة الوحيدة الكفيلة باستقطاب العناصر المختلفة.
كان الواحد - بعد انفلاته من سلطة العائلة ومن نفوذ مقدم القرية، وتحرره من الارتباطات العشائرية واختفاء استبداد "تيدو " - مضطراً إلى البحث عن بديل فيجده لدى التنظيمات الطرقية.
ولعلّ أهم عامل ساعد على تألق نجم الطرق الصوفية وزعمائها يكمن في تطور فلاحة الفول السوداني التي أدت إلى شيوع اقتصاد مبني على تبادل وسط وغربي السنغال، وهي المناطق نفسها التي عرفت قبل غيرها تطوراً في الإدارة ونموًّا في العمران، بينما ظلت المناطق الأخرى من البلاد منكمشة على نفسها.
وهذه الحركة التجارية والعمرانية والإدارية رافقت بروز رؤىً جديدة في الحياة، وولدت رغبة جامحة لدى العامة في وجود زعامة دينية تجسم أحلامهم، وتحل محل الزعامات البالية، وزاد من حظ الشيوخ في السيطرة على العامة أنهم لم يطمعوا في منصب كان "تيدو" يعتلونه، وبالمقابل كرّسوا - بالأصح بعض منهم - جهودهم على الأعمال الإنتاجية، وعلى وجه التحديد إنتاج الفول السوداني حتى أصبحوا ذوي مراكز اقتصادية لا يستهان بها؛ بجانب زعامتهم الروحية، من أجل ذلك توجّه آلاف الناس إليهم لقوتهم المالية والاجتماعية، فحمل ذلك الإدارة الاستعمارية على خطب ودّهم والاستعانة بهم.
وعندما استشعرت الزعامة الطرقية ثقلها الاقتصادي ونفوذها السياسي لم تتوان من الاستفادة منها لحماية مصالحها وازداد مع الأيام نفوذها وتدخلها في الشؤون العامة - إدارية وسياسية - خصوصاً وأن وساطتهم تلتمسها فئات مختلفة من الشعب.
ويلاحظ أن طلّ كبار زعماء الطرق الصوفية موجودون في المناطق التي بدأ وتطور فيها إنتاج الفول السوداني، مما يؤيد رأينا أن نمو وتطور زراعة هذه الغلة ساهم إلى حد بعيد في شهرة هذا الشيخ أو ذاك، فـ "فوتا" التي ينتسب إليها عدد من زعماء الطرق لم تعرف شيخاً واحداً له شهرة الشيوخ الذين ظهروا في مناطق إنتاج الفول السوداني، ونتيجة لذلك فقد لا نحيد عن الصواب إذا ذهبنا إلى القول بأن هناك علاقة سببية بين نفوذ وشهرة شيخ وبين الموقع الجغرافي والوسط الاجتماعي والأصل القبلي الذي نبع منه.
على أنّ عدوى ظاهرة الزعامة الطرقية وتسمياتها المختلفة تسربت إلى المناطق الأخرى بل المجموعات التي لم تعرف إلاّ حديثاً النزعات الانتمائية إلى طرق أصبحت لها ألقاب طرقية.
الأسـر الطرقيّــة الكبرى
أولاً: القادريّــة:
تبدو الطريقة القادرية وكأنها أمّ الطرق في السنغال، وتنسب إلى أبي صالح عبد القادر الجيلاني (1077 -1166 )، انتشرت في أقطار عديدة من العالم الإسلامي حيث أعطت القالب للطرق التي نشأت بعدها "ليس من المغالاة في شيء - يقول "ألفونص غوبي " - القول إنّ الطرق الإسلامية قد استوحت بشكل أو بآخر من التنظيم الذي هيّأه الجيلاني ومن المبادئ التي وضعها جاءت القادرية، شأن باقي الطرق الصوفية، من شمالي أفريقيا إلى غربيها، ويعتبر الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي أول من نشرها في القرن الخامس عشر الميلادي بموريتانيا، ومن ثم دخلت السنغال، لذلك يقع أهم مراكزها في تلك البلاد: الكنتيون، وأهل "شيخ سيدي " في بوتلميت، وأهل الشيخ محمد الفاضل، ولكل من هذه المراكز الثلاثة فروع أو تفرعات بالسنغال؛ منها:
· مركز(12) (أنجاسان N' DIASSANE ) ويقع على بعد حولي (70 ) كيلومترًا من داكار، يجتمع فيه أتباع الكنتية حيث يوجد ضريح أحد زعمائهم، الشيخ "بوكنت " المتوفى سنة 1914م. ينتمي جل أتباع الكنتية إلى جماعة "بامبارا" التي هي من جمهورية مالي، وذلك لامتداد نفوذهم في ذلك القطر قبل انتشار التيجانية، وخصوصاً في (ماسينا وسيغو ) التابعين لهم روحياًّ قبل حركة الحاج عمر الفوتي. ولعلّ كون غالبية أتباع زاوية (أنجاسان ) من أجناس غير سنغالية قلّل كثيراً من نفوذ القادرية الكنتية في السنغال قياساً إلى نفوذ الزعامات الطرقية الأخرى.
على أن (أنجاسان ) تستقبل، بمناسبة موسم المولد النبوي الخاص بها آلاف الزائرين يفيدون إليها من مناطق نائية، وخصوصاً من جمهورية مالي.
· منذ عهد قريب برزت مراكز قادرية جديدة بفضل التقليد دون أن تكون لها جذور تاريخية ولا أصول ثابتة: كمركز (مكا كوليبنتان MAKA COLIBANTANG ) الذي تتزعمه عائلة (جابي جاساماDIABY GASSAMA ) وهي جماعة (جاخنكي DIANKE ) (13) التي هاجرت في الستينيات من غينيا (كوناكري ) إثر نزاع نشب بينها وبين الرئيس سيكوتوري؛ وتتميز احتفالاتهم بالصخب، حيث تمتزج التهليلات والأهازيج الدينية بدقات الطبول وإيقاعات (كوري ) وبدع لا تحصى؛ شأنهم شأن باقي الطرق الصوفية.
· وفي جنوبي السنغال مركز دار السلام الذي أسسه أحد أحفاد الشيخ محمد الفاضل هو الشيخ محفوظ بن طالب خيار المتوفى سنة 1917م. وتوجد أنشط الزوايا القادرية في موريتانيا المجاورة في:
· بلدة بوتلميت، وليس مؤسسها سوى أحد تلامذة الشيخ سيدي المختار الكنتي، وهو الشيخ سيدي الكبير (1780 -1869م ) وقد أدّى حفيده الشيخ سيدي بابا المتوفى سنة 1923م دوراً خطيراً لتوسيع دائرة القادرية في السنغال، وغامبيا والقطار الأخرى لامجاورة؛ تحصل هذه الزاوية على أهم أتباعها من جماعة (ماندنكي ).
وبجوار بوتلميت مركز نمجاط حيث قبر الشيخ سعد أبيه ن محمد الفاضل المتوفى سنة 1917م، ويجوب كل سنة مئات الزائرين من أتباع هذه الزاوية الصحراء تحت أشعة شمس محرفة للاحتفال بعيد الفطر تحت الخيام على جنبات كثبان الرمال المبعثرة هنا وهناك حول ضريح شيخهم الذي تنسب إليه الكرامات.
وتنبني القادرية، شأن التيجانية، على أسس أخلاقية راقية، تدعو إلى التمسك بقواعد الإسلام، وتحث أتباعها على الرأفة والتسامح والتواضع، فهي من هذه الزاوية لا غبار عليها، ولعلّ علوّ بعض أتباعها في تقديس زعمائها يدخل الريبة على النفس؛ خصوصاً وأنهم يعطون أحياناً الأولوية لشؤون الطريقة. وتتراوح أذكار القادرية بين البساطة والتعقيد، طبقاً لاختلاف رتبة المريد، ويبدو أنها أذكار خالية من عوامل التشويق: فلا إنشاد ولا تطريب ولا حضرة تضم مجموعة من الناس، وافتعال جذب واختلاق حالة الوجد…
وتعرف الطريقة القادرية اليوم تقهقراً ملحوظاً وتناقصاً في عدد الأتباع منذ ما وصلت التيجانية إلى غربي أفريقيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومنذ أن تطورت المريدية في القرن العشرين الحالي وامتازت بنوع من الركود والفتور بينما أثارت التيجانية حماساً دينيًّا منقطع النظير، واتهمت القادرية بالتواطؤ والتساهل مع (تيدو ) ثم ظهرت المريدية لتستقطب البقية الباقية من أتباع القادرية.
ثانيـاً: التيجانيــة:
تنسب التيجانية إلى مؤسسها الشيخ أحمد التيجاني الجزائري (1797 - 1815م ) الذي درس بفاس، ويمم نحو الديار المقدسة لأداء فريضة الحج سنة 1718م، وفي طريق عودته عرج على مصر، وهناك انسلك في الخلوتية، وكان قبل ذلك قادرياًّ ثم طيبياًّ، كما كان محمد الغالي خليفة سيدي أحمد التيجاني في المشرق خلوتياًّ قبل أن يصبح تيجانياًّ، ويقال : إن الحاج عمر الفوتي كان هو الآخر سابقاً خلوتياًّ.
أسس سيدي أحمد التيجاني طريقته بإيعاز من الشيخ محمد الكوردي، فلم تمر إلاّ فترة وجيزة على تأسيسها حتى طغت، لا على الخلوتية التي تعد أُماًّ لها فقط، بل على غيرها من الطرق المنتشرة بشمالي وغربي أفريقيا قاطبة، وذلك بفضل حيوية ونشاط دعاتها، والهالة التي تؤطر حضرتها الجماعية.